responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 16  صفحة : 57
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ قَرِيبَةً وَالسَّفَرُ قَرِيبًا لَاتَّبَعُوكَ طَمَعًا مِنْهُمْ فِي الْفَوْزِ بِتِلْكَ الْمَنَافِعِ، وَلَكِنْ طَالَ السَّفَرُ فَكَانُوا كَالْآيِسِينَ مِنَ الْفَوْزِ بِالْغَنِيمَةِ، بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْظِمُونَ غَزْوَ الرُّومِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ تَخَلَّفُوا. ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أنه إذا رجع من الجهاد يجدهم يحلفون باللَّه لو استطعنا لخرجنا معكم إما عند ما يُعَاتِبُهُمْ بِسَبَبِ التَّخَلُّفِ، وَإِمَّا ابْتِدَاءً عَلَى طَرِيقَةِ إِقَامَةِ الْعُذْرِ فِي التَّخَلُّفِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْكَذِبِ وَالنِّفَاقِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَيْمَانَ الْكَاذِبَةَ تُوجِبُ الْهَلَاكَ، وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْيَمِينُ الْغَمُوسُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ» .
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ مَا كُنَّا نَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَطِيعِينَ الْخُرُوجَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ قَادِرًا مُتَمَكِّنًا، إِذْ عَدَمُ الِاسْتِطَاعَةِ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اسْتَدَلَّ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْفِعْلِ، فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ لَكَانَ مَنْ يَخْرُجُ إِلَى الْقِتَالِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا إِلَى الْقِتَالِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانُوا صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ: مَا كُنَّا نَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْقَوْلِ، عَلِمْنَا أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ.
وَاسْتَدَلَّ الْكَعْبِيُّ بِهَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا لَهُ، وَسَأَلَ نَفْسَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ: مَا كَانَ لَهُمْ زَادٌ وَلَا رَاحِلَةٌ، وَمَا أَرَادُوا بِهِ نَفْسَ الْقُدْرَةِ.
وَأَجَابَ: إِنْ كَانَ مَنْ لَا رَاحِلَةَ لَهُ يُعْذَرُ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ، فَمَنْ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ أَوْلَى بِالْعُذْرِ. وَأَيْضًا الظَّاهِرُ مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ قُوَّةُ الْبَدَنِ دُونَ وُجُودِ الْمَالِ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَالُ، فَإِنَّمَا يُرَادُ لِأَنَّهُ يُعِينُ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ بِقُوَّةِ الْبَدَنِ، فَلَا مَعْنَى لِتَرْكِ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.
وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا: بِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ سَلَّمُوا أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْفِعْلِ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَى الْفِعْلِ، إِلَّا بِوَقْتٍ/ وَاحِدٍ، فَأَمَّا أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ بِأَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ فَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْجَالِسَ فِي الْمَكَانِ لَا يَكُونُ قَادِرًا فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ عَنْهُ، بَلْ إِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا فِي الْمَكَانِ الْمُلَاصِقِ لِمَكَانِهِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُدْرَةَ عِنْدَ الْقَوْمِ لَا تَتَقَدَّمُ الْفِعْلَ إِلَّا بِزَمَانٍ وَاحِدٍ، فَالْقَوْمُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَيَلْزَمُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا أَلْزَمُوهُ عَلَيْنَا، وَعِنْدَ هَذَا يَجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، أَنْ نَحْمِلَ الِاسْتِطَاعَةَ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالُوا الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ سَيَحْلِفُونَ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ غَيْبٍ يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْأَمْرُ لَمَّا وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ، كَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ، فَكَانَ مُعْجِزًا. وَاللَّهُ أعلم.

[سورة التوبة (9) : آية 43]
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ [التوبة: 42] أَنَّهُ تَخَلَّفَ قَوْمٌ مِنْ ذَلِكَ الْغَزْوِ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ التَّخَلُّفَ، كَانَ بِإِذْنِ الرَّسُولِ أَمْ لَا؟ فَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ دَلَّ هَذَا، عَلَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ تَخَلَّفَ بِإِذْنِهِ وَفِيهِ مسائل:

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 16  صفحة : 57
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست